recent
أخبار عاجلة

سيدات الأعمال في عصر الرسول : ريادة وعبقرية نسائية في بناء الاقتصاد الإسلامي بقلم حسين السمنودي

 




سيدات الأعمال في عصر الرسول : ريادة وعبقرية نسائية في بناء الاقتصاد الإسلامي


بقلم حسين السمنودي 

المدير العام بمديرية أوقاف القاهرة 


حين نتأمل في سيرة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، نجد أن المرأة المسلمة في عهده لم تكن حبيسة جدران البيوت، ولا معزولة عن حركة الحياة العامة، بل كانت شريكة حقيقية في البناء الحضاري والدعوي والاقتصادي للمجتمع الإسلامي. لقد ظهرت في زمن النبوة سيدات أعمال جسّدن أرقى صور الريادة، وأثبتن أن الإسلام لم يُقصِ المرأة من ميادين المال والتجارة، بل أفسح لها المجال وأكرمها، وجعل من عطائها الاقتصادي وسيلة من وسائل التعبد وبناء الأمة.


ولعل أول وأبرز مثال على ذلك، السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، سيدة نساء قريش، وأول من آمنت برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. لم تكن خديجة مجرد تاجرة، بل كانت من أعظم رجال وسيدات الأعمال في مكة قبل الإسلام، امتد نفوذها التجاري إلى الشام واليمن، وكانت تدير تجارتها عبر التوكيلات والاستثمار في الشركاء الأمناء من الرجال، وقد اختارت محمداً الأمين شريكاً في تجارتها لما عُرف عنه من صدق وأمانة، فكان ذلك بداية قصة شراكة تجارية ثم زواج ملهم، أسّس لحياة زوجية مباركة، جعلت من بيت خديجة أول دار للدعوة والدعم النفسي والمالي للرسول عليه الصلاة والسلام. لقد موّلت السيدة خديجة الدعوة الإسلامية في بداياتها من مالها الخاص، وضربت مثلاً خالداً في توظيف الثروة لخدمة الرسالة.


ولم تكن خديجة وحدها، فقد ظهرت في عصر النبوة سيدات أخريات كان لهن دورٌ اقتصادي وتجاري لافت. من بينهن الشفاء بنت عبد الله العدويّة، التي كانت من أوائل النساء المتعلمات، وعُرفت بحكمتها وحنكتها في البيع والشراء، وعيّنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما بعد مشرفة على السوق، وهي بذلك تُعد أول امرأة في الإسلام تتولى مسؤولية اقتصادية إشرافية بهذا الحجم، بما يؤكد الثقة في قدرات النساء في إدارة الموارد العامة.


ومن النماذج المشرقة أيضاً، زينب بنت جحش رضي الله عنها، إحدى زوجات النبي، والتي اشتهرت بكثرة الصدقات والتجارة باليد، فكانت تعمل وتربح وتنفق بسخاء في سبيل الله. كما برزت رفيدة الأسلمية، التي امتهنت الطب والتمريض وأسست أول مشفى ميداني في الإسلام، مما يدل على أن مفهوم "العمل" عند نساء الصحابة لم يكن محصوراً في التجارة فحسب، بل شمل كل ما يعود بالنفع على الأمة.


كانت سيدات الأعمال في العصر النبوي يزاوجن بين الأخلاق والتجارة، وكان الوازع الديني لديهن هو المحرك الأول في كل تعامل مالي. لم يكن المال غاية بل وسيلة لبناء مجتمع متكافل ومتراحم، وكانت التجارة قائمة على الصدق، والعدل، وحفظ الأمانة، والنصح للمشتري. هذه المبادئ الأخلاقية التي وضعها الإسلام، جسدتها النساء في معاملاتهن فكنّ قدوة في الرقي المهني والنزاهة.


ولا يمكن إغفال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَحرِم النساء من العمل ولا من الثروة، بل شجع المشاركة الاقتصادية بضوابط الشرع، ورفع من مكانة المرأة العاملة، فكان يقول: "النساء شقائق الرجال". لقد اعتبر عمل المرأة عبادة إذا قُصد به وجه الله، وسيلة لإعمار الأرض، فكانت المرأة في عصره تاجرة، وصانعة، ومزارعة، وطبيبة، ومعلّمة، وكل ذلك في إطار من الحياء، والحشمة، والالتزام بأوامر الله.


إن الحديث عن سيدات الأعمال في عصر الرسول ليس مجرد حديث عن الماضي، بل هو دعوة لإحياء نموذج المرأة المسلمة الناجحة في دنياها ودينها، القادرة على الموازنة بين رقتها وأنوثتها وبين صلابتها في التحديات الاقتصادية. لقد فتح الإسلام الباب للمرأة أن تكون شريكة في الإنتاج والبناء، لا تابعة، ولا مهمشة، بل صاحبة إرادة واستقلال مالي وحقوق مضمونة. وهو نموذج نحتاج إلى استعادته اليوم، في زمن تحتاج فيه الأمة إلى كل طاقاتها ورجالها ونسائها للنهوض الحضاري من جديد.

google-playkhamsatmostaqltradent