recent
أخبار عاجلة

التسامح محور جوهرى في الرسالات السماوية بقلم الكاتبة الأردنية رجاء عبد الهادى

 







التسامح محور جوهرى  في الرسالات السماوية

بقلم الكاتبة الأردنية رجاء عبد الهادى 


-في عالمٍ تملؤه الصراعات، وتُكدّره نزاعات النفس قبل نزاعات السياسة، يُولد التسامح كفضيلةٍ نادرة، لا يملكها إلا أولئك الذين انتصروا على أحقادهم، وتمكنوا من نزع شوك الذاكرة بأصابع ناعمة لا تنزف. 

التسامح ليس انحناءة ضعف، بل قامةُ من يملك القوة ليرتقي فوق الجراح. يقول غاندي: "الضعيف لا يمكن أن يسامح، فالتسامح سمة الأقوياء." وهكذا، لا يكون الصفح انسحابًا، بل مواجهة حقيقية، لا مع الآخر، بل مع الذات التي تُصارع رغبتها في الانتقام، لتختار أن تسمو. 

وليس غريبًا أن يكون التسامح محورًا جوهريًا في الرسالات السماوية؛ ففي القرآن الكريم، يُخاطبنا الله تعالى بقوله: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا، أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ؟" [النور: 22]. وفي الإنجيل، يقول السيد المسيح: "أحبوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم." وفي سيرة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، نرى أعظم صور التسامح، حين دخل مكة فاتحًا، منتصرًا، فلم يرفع السيف، بل قال لمن آذوه وطردوه: "اذهبوا فأنتم الطلقاء." 

ما أعظم أن تسامح من ظلمك، لا لأنك نسيت، بل لأنك قررت ألا تظل سجينًا لذاكرة تؤلمك كلما أغلقت عينيك. فالغفران لا يمحو الخطأ، لكنه يوقف نزيفه. وحين تسامح، لا تنقذ الآخر فقط، بل تُنقذ نفسك من الغرق في مستنقع الكراهية. 

لنا جميعًا لحظات أُهِنّا فيها، خُذِلنا، طُعِنّا في خاصرة الثقة، وسالت فينا مرارة الظلم. قد نُغلق الأبواب على من جرحونا، لكننا لا نُغلق الألم. وحده التسامح قادر أن يفتح نافذة، لا على من سامحناهم، بل على نورٍ جديد في قلوبنا نحن. 

وقد سجّل التاريخ مواقف لأمم نهضت حين اختارت الصفح بدل الثأر، كما فعل "نيلسون مانديلا" بعد خروجه من سجون الأبارتايد، إذ رفض الانتقام وقال: "حين خرجت من السجن، كان عليّ أن أترك ألمي خلفي، وإلا سأظل في السجن إلى الأبد." 

اليوم، نحن أحوج ما نكون إلى نشر ثقافة التسامح: في البيوت، في المدارس، في الإعلام، في الخطاب الديني، في السياسة، بل في أعماق الذات. أن نُعلّم أبناءنا أن القوة لا تكون في قبضات اليد، بل في اتساع القلب. 

وفي النهاية، يبقى السؤال معلقًا في ضمير كلّ واحدٍ منّا:

هل أُسامح لأنهم يستحقون؟ أم أُسامح لأنني أستحقُ أن أعيش حرًا من ثقل الكراهية؟

والجواب، كما يقول جبران خليل جبران: "إذا قابلت الإساءة بالإساءة، فمتى تنتهي الإساءة؟" 

فلنُسامح… لا ضعفًا، بل وعيًا. لا نسيانًا، بل تخفيفًا. لا لأجلهم، بل لأجلنا نحن.

لأن التسامح ليس نهاية الغضب، بل بداية السلام… سلامٌ نمنحه لأنفسنا أولًا. 


كاتبة المقال:

رجاء عبد الهادي

كاتبة وناثرة أردنية، مهتمة بقضايا الإنسان والهوية،

 ولها منشورات في عدة مجلات عربية.

google-playkhamsatmostaqltradent