recent
أخبار عاجلة

المرأة السودانية معاناة لا تنتهي لكنهابالإرادة لا تنكسر

 




المرأة السودانية

 معاناة لا تنتهي لكنها بالإرادة  لا تنكسر


بقلم حسين السمنودي

كاتب صحفي


منذ أن اندلعت نيران الحرب الأهلية في السودان، تحوّلت حياة الملايين إلى رماد، وكانت المرأة في مقدمة من دفعوا الثمن. لم تكن فقط ضحية جانبية لصراعٍ مسلّح، بل كانت ولا تزال الهدف الأكثر هشاشة أمام رياح الدمار العشوائي. إنها لا تواجه رصاصًا فقط، بل تواجه فوضى كاملة تسرق منها كل ما له علاقة بالأمن، والكرامة، والاستقرار.


ففي كل لحظة تتساقط فيها القذائف على الأحياء السكنية، تكون هناك أم تحتضن طفلها بين ذراعيها المرتعشتين، وزوجة تهمس بدعائها في ظلمة الليل، وفتاة تهرب من خوفٍ لا تعرف له شكلاً ولا وجها. النساء السودانيات وجدن أنفسهن محاصرات بين خطوط النار، وأهدافًا سهلة للعنف بكل أشكاله؛ من القتل، والخطف، والاغتصاب، إلى التشريد والجوع والانهيار النفسي.


توقفت المدارس، توقفت الحياة، وبقيت هي في الميدان، في المخيم، في الزاوية الضيقة من بيتٍ منهار، تسأل عن الأمان فلا تجده، وتبحث عن غدٍ فلا تراه. كثير منهن فقدن الأزواج، والأبناء، والأحباب، وبقين في عزلةٍ قسرية لا يحتملها بشر، يصارعن الخوف والمرض والجوع، ويُربّين أجيالاً على الأطلال.


ورغم كل ما سبق من مآسٍ، لا تزال المرأة السودانية تُدفع قسرًا نحو هاويةٍ بلا قاع، نحو هوّةٍ عميقة يراد لها أن تغرق فيها إلى الأبد، حيث الفقر، والذل، والانكسار، وحيث تُصبح مجرد رقم في تقارير الإغاثة، أو صورة عابرة على شاشات الأخبار. هناك، في تلك الهوّة، تُسلب منها إنسانيتها، وتُغتال أحلامها، وتُنتزع منها أبسط حقوقها كأنثى، كأم، كإنسانة خلقها الله لتُكرم، لا لتُهان.


تلك الهوة ليست فقط جغرافية أو سياسية، بل هي فكرية واجتماعية واقتصادية. يراد للمرأة السودانية أن تنسى أنها كانت معلمة، وطبيبة، ومهندسة، ومربية أجيال. يراد لها أن تُختزل في كائن مُنهك، تُحاصرها المعاناة اليومية من كل الجهات، وتُدفن طموحاتها في رمال التشرد، وأن تتوارى خلف وجع لا يُشفى.


هي معاناة لانهائية، تتجدد كل يوم بأشكال جديدة. فبينما تبدأ نساء العالم يومهن بالعمل أو التعليم أو التخطيط للمستقبل، تبدأ السودانية يومها بالركض بحثًا عن ماء صالح للشرب، عن دواء لطفلها، عن قطعة خبز، عن مأوى يحميها من حرائق الحرب، وعن لحظة واحدة فقط تنسى فيها الخوف. لكنها لا تجد شيئًا من ذلك. الحرب لا تمنح فُسحةً للراحة، ولا تُجيد التوقف.


تتعرض المرأة هناك لحرب من نوع مختلف، حرب صامتة تُشنّ على آمالها، وعلى أنوثتها، وعلى كرامتها. تُجبر أحيانًا على تزويج بناتها القاصرات خوفًا من الجوع أو الاغتصاب، تُجبر على القبول بوظائف مهينة أو محرومة، تُجبر على الصمت، على الانسحاب من الحياة، على التنازل عن كل ما كان من حقها.


لكنها، رغم كل ذلك، لا تموت. تظل حية بالحب، بالإيمان، بالإرادة التي لا تُكسر، وبقلب أم لا يزال ينبض ولو على رماد الحياة. فالمرأة السودانية، وهي تُجبر كل يوم على النظر إلى هاويةٍ بلا نهاية، لا تزال تمسك بحافة الأمل بأسنانها، تقاوم الانحدار الكامل نحو المجهول. إنها لا تحارب فقط من أجل نفسها، بل من أجل جيلٍ جديدٍ لا تريده أن يولد في العتمة، جيلٍ لا تريده أن يُربّى على الخوف أو يُفطم على صوت الرصاص.


وكلما حاولت قوى الظلم أن تدفعها إلى الغرق في تلك الهوّة السحيقة، كانت هي تنسج من الحطام جسورًا صغيرة تعبر بها نحو ضوءٍ خافت في الأفق، نحو بيتٍ آمن، أو مدرسةٍ لأطفالها، أو حتى لحظة دفء إنساني في مخيم بارد. المعاناة اللامتناهية لم تقتل فيها الحياة، بل أيقظت فيها أنوثةً تقاوم، وأمومةً تُداوي، وإنسانيةً تعلو فوق كل سلاحٍ وكل بندقية.


في كل زقاقٍ من زقاق النزوح، وفي كل ركنٍ من أركان الملاجئ، تجد امرأة سودانية تُطعم، تُغسل، تُرضّع، تُعلّم، تُعالج، تُصلي، تبكي في صمت، وتبتسم لطفلها كي لا يشعر أن الحرب قد انتصرت. هذه المعاناة اليومية، بكل وجوهها القاسية، لم تُطفئ جذوة الروح السودانية العظيمة، بل زادتها توهجًا.


إن ما تتعرض له المرأة السودانية اليوم ليس مجرد انعكاس لحرب أهلية طاحنة، بل هو دليل على مدى الانحدار الأخلاقي في التعاطي مع الأزمات الإنسانية، ومدى العجز الإنساني في نصرة المظلوم، خاصة حين تكون امرأة، ومظلومة، وسودانية، وفي بلد تمزقه الحرب وتخذله الجغرافيا والضمائر.


إن بقاء المرأة السودانية على قيد الحياة وسط كل هذه القسوة هو معجزة. لكن استمرار صمت العالم عن مأساتها هو جريمة. وما لم تُنصف هذه المرأة، وما لم يُرفع عنها الظلم، وما لم يُكسر صمت العالم، فإن الهوّة التي يريدون أن تُدفن فيها قد تبتلع ضمير الإنسانية كلها، لا جسدها فقط.

google-playkhamsatmostaqltradent