recent
أخبار عاجلة

المرأة الفلسطينية ما بين النكبتين: صمود لا ينكسر ودمع لا ينضب بقلم حسين السمنودي


 المرأة الفلسطينية ما بين النكبتين: صمود لا ينكسر ودمع لا ينضب

بقلم حسين السمنودي

كاتب صحفي


النكبة ليست لحظة تاريخية توقفت عند عام 1948، بل هي مأساة ممتدة في الجغرافيا والوعي، تتكرر بأشكال أكثر إيلامًا، وتضرب في عمق الحياة الفلسطينية مع كل صاروخ يُطلق، أو جدار يُرفع، أو جثة تُستخرج من تحت الركام. وبين هذه الفصول المتكررة من الألم، ظلت المرأة الفلسطينية العلامة الأكثر ثباتًا، الوجه الأكثر صدقًا، والجدار الأخير الذي لم يسقط.


في نكبة 1948 خرجت النساء من بيوتهن تحت فزع الرصاص والتهجير، لا يحملن إلا أبناءهن ومفاتيح البيوت المغلقة. منهن من ولدت على الطريق، ومنهن من فقدت زوجها وأباها وأخاها في ساعات، ومع ذلك لم تستسلم. وقفت في الطابور الطويل للنكبات ووزّعت الصبر على أطفالها، وصنعت من الخيمة بيتًا، ومن الحنين وطنًا. لم تكن تلك المرأة تملك شيئًا من أدوات القوة، لكن ملامحها كانت تشبه الأرض: صلبة، طيبة، متجذرة.


منذ تلك اللحظة، تحولت المرأة الفلسطينية إلى حارسة للهوية، تزرعها في أغنية النوم، وفي الذاكرة، وفي طبق المجدرة، وفي المطرزات التي تحمل أسماء القرى المدمرة. حافظت على اللهجة، والعادات، وحكايات الجدّات، وورّثت أولادها حق العودة كما يورّث الذهب والحلم. وحين جاء الحصار الأول والثاني والعاشر، وحين تتابعت الحروب والغارات، لم تنكسر، بل ازدادت عنادًا، وصارت تقدم أبناءها إلى الموت كما تقدمهم إلى المدرسة: بثقة، ودمعة مكتومة.


في غزة، وفي زمن المجازر المفتوحة، ظهرت المرأة الفلسطينية في أبشع مشاهد الإنسانية، لكنها كانت الأبهى. حملت الجرحى، وسقت العطاشى، وأسعفت أبناء الجيران، ثم عادت لبيتٍ مهدوم تبحث فيه عن صورة ابنها الشهيد. نكبتها لم تكن فقط فقدان الأحباب، بل أيضًا حرمانها من النوم والأمان وحتى من الحزن. لم يكن لديها الوقت لتبكي، فهناك من يحتاج لرغيف، ومن يفتش عن دواء، ومن يريد أن يسمع صوت أم، حتى لو من بين الأنقاض.


المرأة الفلسطينية ليست فقط أم الشهيد، بل قد تكون هي الشهيدة، أو الأسيرة، أو المُبعدة، أو من تبني خيمة جديدة فوق أرض متروكة، في تحدٍ صريح لمن يريد اقتلاعها من جذورها. لم تكن الحرب بالنسبة لها حدثًا عابرًا، بل هي قدر، لكنها تصر أن تبقى حيّة فيه، حتى لو لم يبقَ أحد. إن العالم قد يشاهد صورها ولا يسمع صوتها، ولكن صوتها عالٍ في ذاكرة أبنائها الذين تربوا على أن “الكرامة لا تُشترى، والوطن لا يُباع”.


وفي المهجر، تظل المرأة الفلسطينية هي التي تحفظ الوطن في حقيبة صغيرة، تُعلّم أطفالها أن لا ينسوا، رغم المدارس الجديدة واللغات الجديدة. تزين جدران البيت في أوروبا أو لبنان أو أي مخيم بصورة القدس، وتقول: “هذا بيتنا، وإن طال الغياب”. تبكي بحرقة حين تسمع نشيد “موطني”، وتدّخر القليل من المال لزيت زيتون الجليل، لا لشيء، فقط لأن نكهته تذكرها بأنها ما زالت فلسطينية.


لقد تواطأ العالم على جرح فلسطين، لكن النساء فيها قاومن النسيان. إذا سقط الرجال في السجون، كنّ هن من يزرن، ويكتبن الرسائل، ويقُدن التظاهرات، ويشاركن في لجان المقاومة الشعبية، بل ويقفن في وجه الجنود بأجسادهن النحيلة، وحين يسقطن، يسقطن واقفات.


المرأة الفلسطينية لا تطلب بطولة ولا شهرة، فهي تعرف أن ثمن الوطن قد دُفع من جسدها وأعصابها وروحها، لكنها ما زالت تقف، تمسح الغبار عن طفل، وتزرع نبتة على قبر، وتعدّ الخبز على نار الوجع، وتقول “سنعود”. ليست معجزة، لكنها خلاصة أمة، وخلاصة صمود، ومرآة لقضية لم تمت.


اليوم، ما بين النكبة الأولى والنكبة المتجددة، المرأة الفلسطينية لا تزال هنا، في الصفوف الأولى، في الملاجئ، في ساحات الاشتباك، وفي البيوت التي لم تعد بيوتًا. تقاتل بلا سلاح، تحب بلا أمان، وتحلم رغم أن الحلم صار جريمة في عالمٍ أعمى. هي الأم التي أنجبت المقاومة، والزوجة التي تحملت الأسر، والابنة التي شبّت على وقع الأناشيد الممنوعة.


هي فلسطين بوجهها النسائي، المخضب بالدمع والزيتون، والتي، رغم كل ما فقدت، لم تفقد كرامتها. المرأة الفلسطينية لم تُهزم بين النكبتين، بل كانت النور الوحيد الذي لم ينطفئ، رغم عتمة العالم.

google-playkhamsatmostaqltradent